الجمعة، 15 مايو 2009

أئمة المذاهب الأربعة والأزهر والشيعة

أئمة المذاهب الأربعة والأزهر والشيعة

كتب محمود خليل:

كثر اللغط وسب الصحابة وتزوير التاريخ في صراع الإمام علي رضى الله عنه مع معاوية أثناء الدولة الأموية والعباسية وأثار الملاحدة في الدول التي فتحها الإسلام الجدل في صفات الله وفي الجبرية والقدرية والوحي والعقل -بعد الكشف عن آثار اليونان الفكرية عن طريق التراجم- مما أدى إلى ظهور عالم جديد أصبح الناس يفكرون فيه في كل شئ ولا يقيد عقولهم شئ وافتتن المسلمون بالمنطق اليوناني لأرسطو وسلب عقولهم بهجة الفلسفة كما سلبت عقول الشباب أيام أفلاطون وسرعان ما أخذ صرح العلم يتصدع وينهار وكانت البداية التقريبية لهذا العهد هو الجدل الذي ثار حول موضوع خلق القرآن للمعتزلة حيث نشأت الفلسفة في الإسلام على يد هؤلاء المعتزلة الذين ينكرون قدم القرآن.
 لقد تفشت العصبيات الجنسية والقبلية بعد أن زالت بطلوع شمس الإسلام وأطلت برأسها في العصر الأموي من جديد ثم مافتئت تشتد وتترعرع في المجتمعات الإسلامية, وكان الملوك يستغلون هذه العصبيات لتحقيق مصالحهم الشخصية, حيث ظهر المذهب الدرزي, ونهب القرامطة مكة وسرقوا الحجر الأسود, وتوقف الحج خوفا منهم, وكثرت الفتن بين السنة والشيعة.
وأيضا بداء العصبية القبلية زال الحكم الأموي وإلى العصبية يرجع أيضا الدور الأكبر في تدمير عرش الأمويين في الأندلس (عام 1031ميلادى– 423 هجرى) ثم ظهر هناك ابن حزم وهو واحد من جهابذة علماء الدين والمؤرخين كما كان وزيرا لآخر الخلفاء الأمويين ويعد كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" الذي يتكلم فيه عن اليهودية والزرداشتية والمسيحية والفرق الإسلامية المختلفة من أقدم ما كتب في علم مقارنة الأديان حيث ابتعد فيه عن التعصب الأعمى للمذاهب الفقهية ووصل بمآخذ الأدلة من الكتاب والسنة في سهولة ويسر وعمل على التنبيه على الحكم والفوائد ما اتيحت لذلك فرصة وانتقد بشدة تفرق المسلمين محذرا إياهم بقول القرآن الكريم: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
وأيضا: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ" وكذلك: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" وأكد ابن حزم عموم الرسالة بأنه ليس فيها ما يصعب على الناس اعتقاده أو يشق عليهم العمل به وأن مالا يختلف باختلاف الزمان والمكان كالعقائد والعبادات جاء مفصلا تفصيلا كاملا فليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص منه, وأن كل ما فيها من تعاليم إنما يقصد به حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
انتشرت عقائد المعتزلة أثناء خلافة المنصور وتغلبت في أماكن متفرقة على غيرها من الآراء وافتتن الخليفة العباسى المأمون نفسه بهذه النزعة العقلية الآخذة في القوة وبسط عليها حمايته وانتهى الأمر بأن جعل عقائد المعتزلة مذهب الدولة الرسمي -تلك العقائد المستمدة من الثقافة اليونانية- وأصدر عام 832م أمرا يفرض فيه على جميع المسلمين بأن يعتقدوا بأن القرآن قد خلق في وقت بعينه وأتبع هذا بأمر آخر يقضي بألا يعين قاضيا في المحاكم أو أن تقبل فيها شهادته من لم يعلن قبوله لهذه العقيدة الجديدة وصدرت بعد هذين القرارين قرارات أخرى تحتم قبول عقيدة حرية الإرادة (وهى التى تدعى أن الأحداث ليست مقدرة من عند الله تعالى).
وانتهى الأمر بأن جعل المأمون رفض هذه العقائد من الجرائم التي يعاقب مرتكبيها بالإعدام وتوفي المأمون بعد عام؛ لكن المعتصم والواثق اللذين توليا الخلافة بعده أصلا هذه الحملة الفكرية وبدا أن صرح الإسلام القائم على القرآن قد أصبح وشيك الانهيار غير أن عاملين اثنين في هذه الأزمة الشديدة جعلت النصر النهائي لأهل السنة.. الأول كان ولاء الناس لعقائدهم والثانية كانت ظهور الأئمة الأربعة مجددي القرن الثاني الهجرى.
فلقد ظهر الإمام أبو حنيفة وأعلن قاعدته العلمية الشرعية وهى أن أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ثم من أمته أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وأن معاوية صحابي جليل وقد كان الحق مع على في خلافه معه.. ثم بدأ الإمام الشافعي في المهمة العلمية الجليلة بتصنيف الفقه وإدخال العقلية العلمية في علوم الدين حتى قال عنه الإمام ابن حنبل أنه ما من قلم وضع على ورقة لسطر علم إسلامي إلا وللشافعي فضل فيه, فبفضل الإمام الشافعي (والأئمة الأربعة) تم التحقيق في علوم القرآن والسنة والاجتهاد والتدوين وتم استخراج صورة تفصيلية لقوانين الإسلام من أصول الدين..
وقاوم ابن حنبل هذا الاضطهاد الفكري لخلفاء الدولة العباسيين وندد به ولما استدعى لمناقشته في أمر المبادئ الجديدة أجاب عن كل ما وجه إليه من أسئلة بإيراد شواهد من القرآن تؤيد آراء أهل السنة فتم ضربه حتى أغمي عليه وألقي في السجن وكان تعذيبه هذا من العوامل التي مهدت السبيل لرفع راية العلم على حساب الشريعة من جديد.
يقول الإمام أبو سهل الصعلوكي: "أعلى الله تعالى هذا الدين بأحمد بن حنبل بعد ما ذهب أكثره" وبذلك أوجد هؤلاء الأئمة الأربعة مذاهب للفكر بقيت بقوتها تنجب المجتهدين إلى سبعة قرون برغم المشاق والاضطهاد الذى تعرضوا له من الحكم الملكي ومن ذلك العهد أصبح علماء الإسلام لا يهمهم غضب الحاكم أم رضاه.
بدأ الضعف السياسي يدب في الدولة الإسلامية بعد أن وصل ذروة ازدهاره أيام الخليفة هارون الرشيد فبعد وفاة الخليفة المتوكل تولى بعده خلفاء ضعاف فبدأ تفكك الخلافة العباسية بتأسيس الدولة الطولونية في مصر وظهرت نزعة التصوف والإفراط فيها بعد أن كانت معتدلة (كأيام رابعة العدوية وإبراهيم بن أدهم) وظهرت منهم طوائف مارقة تخفي تحت ستار العقائد الدينية آراء سياسية ثورية أو تدعو إلى الفوضى الأخلاقية والقانونية ومن بين هذه الطوائف وأخطرها على الإسلام على مدى القرون كانت طائفة الاسماعيلية.
كان الشيعة يقولون إن على رأس كل جيل من أبناء الإمام علي إلى الجيل الثانى عشر إماما وزعيما, فعين إسماعيل إماما من قبل أبيه جعفر (الإمام السادس) ويقال أنه أدمن الخمر فخلعه جعفر ورأى بعض الشيعة أن بيعة إسماعيل لا يجوز نقضها وقالوا أنه آخر الأئمة وظلت طائفة الإسماعيلية نحو مائة سنة لا يؤبه بها و لها حتى تزعمها ابن ميمون القداح الذى أرسل المبشرين يدعون إلى عقيدة الطائفة في الخفاء في أنحاء بلاد الإسلام وكان يقال لمن يدخل في مذهبهم أنه بعد أن يمر بتسعة مراحل ترفع عنه جميع الحجب فيصبح فوق كل قانون!!.. ولما مات القداح تولى زعامة الإسماعيلية فلاح عراقي حمدان قرمط (من القرامطة الفرس) وكان يرمي للقضاء على العرب وإعادة الدولة الفارسية وكانت دعوته في ظاهر الأمر صوفية وكانوا يقولون بشيوعية النساء وأخذوا يفسرون القرآن تفسيرا مجازيا لا يتقيدون فيه بأقوال أهل السنة ويتحللون من الشعائر الدينية.
كما ظهر الرافضة الذين يسبون الصحابة, كما أسست الطائفة الاسماعيلية الخلافة الفاطمية بتونس عام 909 م فقد دعا أبو عبد الله للمذهب الشيعي في تونس وأنهى حكم دولة الأغالبة هناك واستدعى عبيد الله بن محمد وزعم أنه حفيد عبد الله إمام الإسماعيلية ونادى به ملكا وقال عبيد الله زورا أن نسبه يمتد إلى السيدة فاطمة وسمى أسرته بالأسرة الفاطمية وعند محاولتهم دخول مصر كشفت حملتهم عن ميل نسبة كبيرة من المصريين إلى الدعوة الفاطمية بفضل تأثير بعض دعاة المذهب الإسماعيلي في مصر, وامتد حكمهم من بلاد المغرب وحتى بلاد الشام والحجاز وانتشرت بدعهم من احتفالات رأس السنة الهجرية ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي والحسين وفاطمة وعاشوراء وأول رجب ونصفه وأول شعبان ونصفه ووفاء النيل وتفشى اللهو والانحلال الخلقي.
أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة لتكون رمز الدعوة الشيعية وكان الطلاب يتلقون إلى جانب فقه الشيعة علوم الفلك والطب والرياضيات مما غلب عليها الصبغة العلمية خلاف المساجد الفاطمية الأخرى وكان بين أساتذتها ابن الهيثم.
كما نشأ الأزهر على يد جوهر الصقلي في شعبان 358 ه –972 م وفي عام 988 م – 374ه أشار الوزير يعقوب على الخليفة العزيز أن يعلم على حسابه 35 طالبا في الأزهر وبهذا نشأت أقدم جامعة في العالم ولما نمت اجتذبت إليها طلابا من جميع أنحاء العالم الإسلامي وكان كبار العلماء يفدون إلى الأزهر ليعلموا الطلاب النحو والبلاغة والرياضة والعروض والمنطق والحديث والتفسير والشريعة ولم يكن الطلاب يؤدون أجورا كما لم يكن الأساتذة يتناولون مرتبات بل كانت تعتمد على الأموال الحكومية وهبات المحسنين.
كان الفاطميون أغنى حكام زمانهم حتى أن الحاكم بأمر الله جن من فرط الثراء وعرف بالشذوذ في قراراته وألغى المذهب السني وعم المذهب الشيعي وأمر بسب الصحابة وقدم مصر عام 1018 م- 405 ه وفد من الشيعة من فارس بشروا بتأليه الحاكم بأمر الله فهاج الشعب على كبيرهم في الأزهر (وهو محمد الدرزي والذي كان معينا من الحاكم مشرفا على شئون الدولة ففر إلى الشام وكون الطائفة الدرزية) وأيد الفاطميون سلطانهم بجمع طائفة الإسماعيلية في جماعة كبرى ذات طقوس واستخدموا أعضاءها في الدسائس السياسية وحرص الفاطميون على اتباع نظام الوراثة عند الإسماعيلية, وعملوا على نشر المذهب الإسماعيلي في الأزهر.
وأما المذاهب السنية فقد وقف فيها الاجتهاد وتجمدت فبعد الأئمة الأربعة فترت همم الناس وتحركت فيهم غريزة التقليد والتعصب حتى أن بعضهم ينزل قول إمامه فوق قول الشارع حتى قال الكرخي:- كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ!!!.. وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء ومما ساعد على ذلك ما قام به الحكام من إنشاء المدارس وقصر التدريس فيها على مذهب الشيعة وقدرت وظائف للفقهاء على المذاهب ومن خرج عن ذلك لم ينله مرتب.
ومن بين كل تلك الفتن ظهر شيخ المفسرين أبو جعفر محمد الطبري وهو من أصل فارسي ليضع أكمل تفسير للقرآن منذ البعثة النبوية وهو تفسير الإمام الطبري وأكمله في أربعين عاما وبه أخرس أفواه من الطوائف المارقة المتأولين كذبا على كتاب الله.
وما فعله الطبري للإسلام يتلخص في الرؤيا التي رآها أبوه وهو أن ابنه واقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار وهو يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له إن ابنك إن كبر نصح في دينه وذب عن شريعة ربه.
يقول الأسيوطي:- كتابه أجل التفاسير فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال والإعراب والاستنباط
ويقول النووي:- أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري والطابع المميز لتفسير الطبري اعتماده على المأثور عن النبي صلي الله عليه وسلم وعلى آراء الصحابة والتابعين ثم أضاف بالمأثور ماعرف في عصره من نحو وبلاغة كما رجع إلى القراءات وتخير منها وعرض كثيرا من آراء الفقهاء واستعان بكتب التاريخ ولم يقع فيما وقع فيه مفسري القرآن من تصوير لبعض كلمات القرآن المحيرة تمثيلا وصورا خاطئة تلك التي نعلم الآن تفسيرها على أساس علمي وتثبت الإعجاز العلمي, حيث أخطأ الكثير من مفسري القرآن في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق.
لم يكن التفسير الصحيح ممكنا إلا بعد ذلك العصر بقرون كثيرة لأن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية بل يجب بالإضافة إليها امتلاك معارف علمية شديدة التنوع ولقد حيرت بعض كلمات القرآن مفسري القرآن إذ لم يكن بمقدورهم أن يتخيلوا مثلا أن كلمة "فلك" في القرآن تعني الرحلة الدائرية للقمر والشمس في الفضاء, فيضيف الطبري عند التعرض لهذه الكلمات هذا التعليق الحكيم "ونسكت عما لا علم لنا فيه", وهذا يدل على أنه إذا كانت كلمة "فلك" تعني مفهوما سائدا في العصر الأول لما لقي تفسير هذه الآيات مثل هذه المصاعب وعليه فقد قدم القرآن في ذلك العصر مفهوما جديدا لم يتضح إلا بعد قرون عدة وهو مدار الشمس والقمر مما يزيد من قيمة الإعجاز العلمي للقرآن كما كتب الطبري إحدى أشهر كتب التاريخ بعنوان "تاريخ الطبري".

 وعلى ضوء الكتاب والسنة سار الصحابة ومن بعدهم ولما جاء أئمة المذاهب الأربعة تبعوا سنن من قبلهم وكانوا ينهون عن تقليدهم ويقولون لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا وصرحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح, وهب ابن حزم يصيح بهؤلاء الجامدين من المقلدين دون فهم: "دونكم النبع الصافي.. الكتاب والسنة".